جريمة مسجد فرنسا- إرهاب مُقنّع أم ازدواجية معايير؟

المؤلف: نجيب يماني09.17.2025
جريمة مسجد فرنسا- إرهاب مُقنّع أم ازدواجية معايير؟

في حادثة مروعة هزت الأوساط الفرنسية، شهد مسجد خديجة في بلدة «لاغران كومب» الواقعة جنوب فرنسا جريمة قتل شنيعة، حيث أزهقت روح رجل مسلم مسالم، يدعى «أبو بكر سيسيه»، وهو مهاجر مالي كان يعمل بجد في خدمة المسجد وتنظيفه. الجاني، شاب فرنسي يافع يدعى «أوليفيه هـ»، لم يتجاوز بعد العقد الثاني من عمره، نشأ في كنف أسرة متواضعة العدد، قوامها أحد عشر فردًا. لقد ارتكب فعلته الشنيعة بأسلوب يثير الاشمئزاز، حيث تجلت الوحشية والهمجية بأبشع صورها؛ إذ قام بطعنه في عنقه، ثم عاد إليه بعد فترة قصيرة ليوجه إليه وابلاً من الطعنات الغادرة، وصل عددها إلى سبع وثلاثين طعنة، والأدهى من ذلك أنه قام بتوثيق جريمته البشعة ونشرها على منصة «إنستغرام»، وكأنه يحتفل بإنجاز بطولي!

إن ما يثير الذعر أكثر من الجريمة النكراء نفسها، هو رد الفعل المتخاذل من قبل السلطات الفرنسية والقضائية، التي بادرت على الفور إلى نفي أي دافع إرهابي للجريمة، واكتفت بوصف القاتل بأنه «شخص مهووس بالقتل العشوائي»؛ دون أدنى التفات إلى العوامل المحرضة في وسائل الإعلام، والعنصرية المتفشية، وتصاعد موجة الإسلاموفوبيا في أرجاء المجتمع الأوروبي برمته.

إنها جريمة فظيعة ومسؤولية سياسية مضاعفة، صحيح أن القاتل لم يكن يعرف الضحية شخصيًا، إلا أن الجريمة لم تكن مجرد «حادثة عابرة»، بل وقعت داخل بيت من بيوت الله، على يد شاب أبيض، اختار ضحيته بعناية فائقة حين رآه منكبًا على أداء مناسك الإسلام. ومجرد قيامه بتصوير الجريمة ونشرها على مرأى ومسمع من الجميع، يجعلنا أمام عمل دعائي تحريضي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

فما الذي يلزم لكي تصنف هذه الجريمة على أنها عمل إرهابي؟ هل كان يتعين عليه أن يعلن بيعته لتنظيم داعش الإرهابي لكي يعتبر إرهابيًا؟ أم أن الإرهاب في المنظور الأوروبي لا يعترف به إلا إذا كان مرتكبه مسلمًا يحمل اسمًا عربيًا؟

إن مجرد إنكار الطابع الإرهابي في هذه الجريمة يشكل بحد ذاته تواطؤًا وتمييزًا صارخًا في التعامل مع الجرائم على أسس دينية وعرقية. فلو كان الضحية أوروبيًا والجاني مسلمًا، لانتفضت فرنسا بأكملها، ولأضاءت العواصم الأوروبية أنوارها تعبيرًا عن الحزن والأسى، ولأغلقت حدودها خشية من «الخطر الإسلامي» المزعوم.

إن وصف المدعية العامة «سيسيل جنساك» للقاتل بأنه «مدفوع برغبة جامحة في القتل» يثير العديد من التساؤلات المقلقة:

لماذا اقتحم المسجد تحديدًا من بين جميع الأماكن؟

لماذا استدرج الضحية ليصلي ثم قام بطعنه أثناء السجود، وهو في أوج خشوعه وتضرعه إلى الله؟

لماذا قام بتصوير الجريمة ونشرها على الملأ؟

لماذا هرب من مسرح الجريمة ثم قام بتسليم نفسه بعد يومين؟

إن جميع هذه التصرفات تدل دلالة قاطعة على نية مسبقة، واختيار واعٍ للضحية، وطريقة قتل تحمل رمزية دينية عميقة.

مسلم يُقتل غدرًا في بيت الله وهو ساجد بين يدي ربه، والقاتل يتباهى بفعله الشنيع أمام أنظار الناس.

إن أي تحليل جنائي موضوعي لا يمكن أن يفصل هذا الفعل عن دوافع الكراهية الدينية، والتطرف اليميني المتصاعد، الذي تغذيه أطراف إعلامية وسياسية معروفة، وعلى رأسها تيارات اليمين المتطرف التي لا تنفك تشنع على المسلمين وتلقي عليهم تهم التطرف والإرهاب، في حين تتنصل هذه التيارات من نتائج خطابها التحريضي عندما يتحول إلى دماء تسيل وأرواح تزهق.

فهل نحن أمام معايير مزدوجة في تطبيق العدالة؟

مع الأسف، نعم. العدالة ليست عمياء على الدوام، بل تغض الطرف حين يكون الضحية مسلمًا، وتفتح عينيها على اتساعهما حين يكون الجاني مسلمًا.

وفي أوروبا، يبدو أن كلمة «إرهاب» حكرًا فقط على من يحمل اسمًا عربيًا أو خلفية إسلامية، أما بقية الجرائم فهي مجرد «أعمال فردية» أو «حالات اضطراب نفسي»!

إن التستر على هذه الجريمة النكراء، أو تسييعها قانونيًا، لن يخفي حقيقتها الدامغة، فهي جريمة إرهابية بكل المقاييس، والقاتل متطرف متعصب، وخطاب الكراهية هو المحرض الأول والأخير.

فعلى المنظمات الحقوقية الدولية أن تدرك أن العدالة شاملة لا انتقائية، وأن دم المسلم لا يقل قيمة عن دم أي إنسان آخر.

أبو بكر سيسيه قتل طعنًا، ثم قتل مرة أخرى بتجاهل قضيته وتهميشها. وإذا لم نسمِّ الأمور بمسمياتها الحقيقية، فإننا نصبح شركاء في الجريمة بصمتنا وتخاذلنا.

فلتكن دماء هذا الرجل المظلوم صرخة مدوية في وجه العنصرية والإسلاموفوبيا المتجذرة، ومنارة ساطعة تفضح النفاق الحقوقي السائد في الغرب، وتعيد تعريف الإرهاب بعد أن اختطفته وسائل الإعلام والسياسة ومارسوا عليه التضليل والتزييف.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة